
غزة، المدينةُ الأكثرُ عاديّةً في العالم.
مدينةٌ لا تُجيدُ الغواية، ولا تُراهنُ على فتنةِ المشهد. لا جبالَ فيها تُعانقُ الغيوم، ولا نهرٌ يُحيلُ الزمنَ إلى ماءٍ شفّاف، ولا مطرٌ فوق الغابات ينقشُ على أوراقِ الشجرِ أسرارَ الولادةِ والحياة.
كلّ ما فيها حياديٌّ، متواضعٌ، يتواطأُ مع الضرورة.
حتى طيورُها لا تصنعُ المجازَ وهي تُحلّق، بل تطيرُ لأجلِ غايةٍ واحدة: البقاء.
وكذلك معمارُها؛
لا أسوارَ ولا قِلاع، لا كاتدرائياتٍ تنحتُ التاريخَ على الرخام،
لا أقواسَ نصرٍ تردد صدى وقعَ الجيوشِ الغابرة،
ولا أبنيةً حديثةً تُباهي بفانتازيا الخيال.
ولا نساءَ فاتناتٍ في شوارعها يَمتَهِنَّ القتلَ بكاتمِ الصوت،
أو يقرعنَ الأرصفةَ بكعوبٍ عالية، ليدخلنَ حافياتٍ في متاهاتِ الخيال.
لقد أضافتِ الحربُ بؤسًا إلى بؤسِها، وحفرتْ في وجهِها الطريِّ أخاديدَ،
لكن شيئًا من ذلك لم يمسَّها أو يُنقصْ منها كفكرة، أو كحكمةٍ إلهيّةٍ في الوجود.
هي مثلُ بطلِ روايةٍ يصوغُه المؤلّفُ في خيالِه،
يحرصُ على تجريدِه من كلِّ صفةٍ زائدةٍ عن حاجة الدور الدي يؤديه وكذلك غزة ، متقشفة لكنها ليست سهلة المعنى
فكلّ محاولةٍ لتفسيرِها تنقلبُ إلى نفي،
وكلّ نفيٍ يُفضي إلى نقيضه، فهي :
ليست بطلة، لأنّها ضحيّة.
وليست ضحيّة، لأنّها تقاوم.
وليست مقاومة، لأنّها مكبّلة.
وليست مكبّلة، لأنّها حرّة.
وليست حرّة، لأنّها تحت الاحتلال.
وليست محتلة، لأنّها تملكُ إرادةً من نار.
كلّ صفةٍ تُخفي نقيضَها،
في رقصةٍ جدليّةٍ لا تهدأ،
كأنّها مرايا مكسورة،
كلّ شظيّةٍ منها تقول منها شيئا ولا تقولها كلها.
يُقال إنّ لكلّ مخلوقٍ في الطبيعة صفةً وُضِعت فيه،
ليتعلّم الإنسانُ منها:
الجبلُ للشموخ، الزهرةُ للجمال، النحلُ للنظام، النملُ للتعاون،
الجملُ للصبر، الكلبُ للوفاء، الأسدُ للشجاعة…
أمّا غزة، فقد خُلِقَت لتكون «اللازمة الكونية» لنقصان العالم؛
شيئًا يُذكّرُ
أنّ ثمّة شيء غائب …
ثمة شيء ينقصُ الإنسانية ينقص الانسان
بقلم/ د. عاهد حلس